قصة نيوتن...الطريق للنجاح
تخطى كل الصعاب و رسم الطريق
إسحاق نيوتن ..... ولد في مزرعة صغيرة بوولزثورب في مقاطعة لنكولن في 25 ديسمبر1642 (حسب التقويم القديم أي اليولياني) وهو العام الذي مات فيه جاليليو وكانتالزعامة الثقافية كالزعامة الاقتصادية في سبيلها من الجنوب إلى الشمال. وكان عندميلاده صغير الحجم جداً بحيث كان في الإمكان وضعه في كوز سعته ربع جالون (كماأخبرته أمه فيما بعد) وضعيفاً جداً بحيث لم يخطر ببال أحد أنه سيعيش أكثر من أياممعدودات. وكفلته أمه وخاله لأن أباه كان قد مات قبل ولادته بشهور.
وحين بلغالثانية عشرة أرسل إلى المدرسة الخاصة في جرانثام فلم يحالفه التوفيق فيها. وجاء فيالتقارير عنه أنه " خامل " و " غير ملتفت " وأنه يهمل الدراسات المقررة ويقبل علىالموضوعات التي تستهويه وينفق الوقت الكثير على المخترعات الميكانيكية كالمزاولوالسواقي والساعات البيتية الصنع. وبعد أن قضى عامين في جرانثام أخذ من المدرسةليساعد أمه في المزرعة. ولكنه عاد إلى إهمال واجباته ليقرأ الكتب ويحل المسائلالرياضية. وتبين خال آخر كفايته فأعاده إلى المدرسة وعمل الترتيبات لقبول نيوتنبكلية ترنتي في كمبردج (1661) طالباً يكسب مصروفاته بمختلف الخدمات وحصل على درجتهالجامعية بعد أربع سنوات وبعدها بقليل انتخب زميلاً بالكلية. وخص باهتمامه الرياضةوالبصريات والفلك والتنجيم وقد احتفظ بميله لدراسة التنجيم إلى فترة متأخرة منحياته.
وفي 1669 استقال أستاذه في الرياضة إسحاق بارو وعين نيوتن خلفاً لهبناءً على توصية منه وصف فيها نيوتن بأنه " عبقري لا نظير له " وقد احتفظ بكرسيه فيترنتي أربعة وثلاثين عاماً. ولم يكن بالمعلم الناجح. كتب سكرتيره عن ذكريات ذلكالعهد يقول " كان الذين يذهبون للاستماع إليه قليلين والذين يفهمونه أقل حتى أنه فيأحياناً كثيرة وكأنه يقرأ للحيطان بسبب قلة السامعين ". وفي بعض المناسبات لم يكنيجد مستمعين إطلاقاً فيعود إلى حجرته كاسف البال.
وبنى فيه مختبراً - كانالوحيد في كمبردج آنئذ. وقام بالكثير من التجارب لا سيما في الخيمياء " وهدفهالأكبر تحويل المعادن " ولكنه اهتم أيضاً بـ " اكسير الحياة " و " حجر الفلاسفة" وواصل دراساته الخيميائية من 1661 إلى 1692 وحتى وهو يكتب كتابه " المبادئ " تركمخطوطات عن الخيمياء دون نشر بلغ مجموع كلماتها نيفاً و 100.000 " لا قيمة لهاإطلاقاً " وكان بويل وغيره من أعضاء الجمعية الملكية مشغولين شغلاً محموماً بهذاالبحث نفسه عن صنع الذهب. ولم يكن هدف نيوتن تجارياً بشكل واضح فهو لم يبد قط أيحرص على المكاسب المادية ولعله كان يبحث عن قانون أو عملية يمكن أن تفسر بهاالعناصر على أنها أشكال مغايرة قابلة للتحويل لمادة أساسية واحدة. ولا سبيل لنا إلىالتأكد من أنه كان مخطئاً.
وكان له حديقة صغيرة خارج مسكنه بكمبردج يتمشىفيها فترات قصيرة سرعان ما تقطعها فكرة يهرع إلى مكتبه ليسجلها. كان قليل الجلوسيؤثر أن يذرع حجرته كثيراً (في رواية سكرتيره) " حتى لتخاله... واحداً من جماعةأرسطو " المشائين. وكان مقلاً في الطعام وكثيراً ما فوت وجبة ونسى أنه فوتها. وكانضنيناً بالوقت الذي لا بد من إنفاقها في الأكل والنوم. " ونادراً ما ذهب لتناولالطعام في القاعة فإذا فعل فإنه - ما لم ينبه - يذهب في هيئة زرية حذاؤه باليالكعبين وجواربه بلا رباط... ورأسه غير ممشط إلا فيما ندر ". وقد رويت واخترعتالقصص الكثيرة عن شرود ذهنه. ويؤكدون أنه قد يجلس الساعات بعد استيقاظه من النومعلى فراشه دون أن يرتدي ثيابه وقد استغرقه الفكر. وكان أحياناً إذا جاءه زائرونيختفي في حجرة أخرى ويخط أفكاراً على عجل وينسى أصحابه تماماً.
لقد كانراهباً من رهبان العلم في هذه السنين الخمس والثلاثين بكمبردج. وقد وضع " قواعدللتفلسف " - أعني الطريقة والبحث العلميين. ورفض القواعد التي وضعها ديكارت في" مقاله " كمبادئ قابلية تستنتج منها كل الحقائق الكبرى بالاستدلال. وحين قال نيوتن" أنا لا أخترع فروضاً " كان يعني أنه لا يقدم نظريات حول أي شيء يتجاوز ملاحظةالظواهر فهو إذن لا يغامر بأي تخمين عن طبيعة الجاذبية بل يكتفي بوصف مسلكها وصياغةقوانينها. ولم يزعم أنه يتجنب الفروض باعتبارها مفاتيح للتجارب فإن مختبره علىالعكس خصص لاختبار مئات الأفكار والإمكانات وسجله يزخر بالفروض التي جربت ثم رفضت. كذلك لم يرفض الاستدلال إنما أصر على أنه يجب أن ينطلق من الوقائع ويفضي إلىالمبادئ. وكانت طريقته أن يتصور الحلول الممكنة للمشكلة ويستنبط متضمناتها الرياضيةويختبر هذه بالحساب والتجربة.
وكتب يقول " يبدو أن مهمة الفلسفة (الطبيعية) كلها تكمن في هذا - البحث من ظواهر الحركات في قوى الطبيعة ثم إيضاح الظواهر الأخرىمن هذه القوى ". لقد كان مزيجاً من الرياضة والخيال ولن يستطيع فهمه إلا من يملكهماجميعاً.
ولكن لنمض في طريقنا رغم هذا. إن لشهرته بؤرتين - حساب التفاضلوالجاذبية. بدأ عمله في حساب التفاضل عام 1665 بإيجاد مماس ونصف قطر الانحناء عندأي نقطة على منحني.
ولم يسم طريقته حساب التفاضل بل الفروق المستمرة وفسرهذا المصطلح تفسيراً لا يمكننا أن " إن الخطوط ترسم وبهذا الرسم تولد لا بضمالأجزاء بعضها إلى بعض بل بالتحرك المستمر بالنقط والسطوح بتحرك الخطوط والمجسماتبتحرك السطوح والزوايا بدوران الجوانب وأجزاء الزمن بالفيض المستمر وهكذا في غيرذلك من الكميات. وعلى ذلك فبما أن الكميات التي تزداد في أزمان متساوية وبالزيادةتولد أصبحت أكبر أو أقل حسب السرعة الأكبر أو الأقل التي تزداد أو تولد بها فإننيبحثت عن طريقة لتحديد الكميات من سرعات الحركات أو الزيادات التي تولد بها وإذاأطلقت على سرعات الحركات أو الزيادات لفظ " الفروق والكميات المولودة " المتغيرات" فقد اهتديت شيئاً فشيئاً إلى طريقة الفروق في عامي 1665 و 1666 " وقد وصف نيوتنطريقته في خطاب كتبه لبارو عام 1669 وأشار إليها في خطاب لجون كولنز في 1672. ولعلهاستخدم هذه الطريقة في التوصل إلى بعض النتائج المتضمنة في كتابه " المبادئ" (1687) ولكن عرضه لها فيه جري على الصيغ الهندسية المقبولة ربما مراعاة لم يناسبقراءه. وقد أسهم ببيان لطريقته في الفروق - ولكن دون أن يخفي اسمه - في كتاب واليس" الجبر " عام 1693.
ولم ينشر الوصف الذي اقتبسناه فيما سبق إلا عام1704 في ملحق لكتابه " البصريات ". وكان في طبع نيوتن أن يؤخر نشر نظرياته وربماأراد أولاً أن يحل الصعوبات التي أوحت بها. وعليه فقد انتظر حتى سنة 1676 لينشرنظرية " ذات الحدين " التي خلص إليها. ولو أنه صاغها على هذه التأجيلات زجت برياضيأوربا في جدل معيب مزق دولية العلم جيلاً بأسره. ذلك أنه في الفترة بين إبلاغ نيوتننظريته في " الفروق " لأصحابه في 1669 ونشر الطريقة الجديدة في 1704 وضع ليبنتزنظاماً منافساً لها في ماينز وباريس. ففي 1671 أرسل إلى أكاديمية العلوم بحثاً يحويجرثومة حساب التفاضل وقابل ليبنتز أولدبورج في زيارة للندن من يناير إلى مارس 673وكان قد تبادل الرسائل معه ومع بويل. وقد ظن أصحاب نيوتن فيما بعد أن لبنتز فيرحلته هذه تلقى إلماعاً لفروق نيوتن - ولكن المؤرخين يتشككون في هذا الآن. وفييونيو 1676 بناء على طلب أولدنبرج وكولنز كتب نيوتن خطاباً ليبلغ إلى لبنتز شارحاًفيه طريقته في التحليل.
وفي أغسطس رد لبنتز على أولدنبرج وضمن الرد بعضالأمثلة من شغله في حساب التفاضل وفي يونيو 1677 في خطاب آخر لأولدنبرج وصف نوعحساب التفاضيل الذي توصل إليه وطريقته في التنويت أي التدوين بمجموعة من الرموز) وهما يختلفان عن حساب نيوتن وطريقته. ثم عاد في مجلة عدد أكتوبر 1684 يشرح حسابالتفاضل وفي 1686 نشر طريقته في حساب التكامل. وفي الطبعة الأولى من " المبادئ" (1687) قبل نيوتن بشكل واضح اكتشاف ليبنتز لحساب التفاضل مستقلاً. قال: " في رسائلتبادلتها مع عالم الهندسة الألمعي ج. و. ليبنتز قبل عشر سنوات حين أشرت إلى أننيأعرف طريقة لإيجاد الحدود القصوى والدنيا ورسم المماسات وما إلى ذلك... رد السيدالمبجل بأنه اهتدى هو أيضاً إلى طريقة من نفس النوع وأنهى إلى طريقته التي لم تكدتختلف عن طريقتي... إلا في أشكال ألفاظه ورموزه".
وكان خليقاً بهذاالاعتراف المهذب أن يمنع الجدل. ولكن في 1699 أشار رياضي سويسري في رسالة للجمعيةالملكية إلى أن لبنتز استعار حساب تفاضله من نيوتن. وفي 1705 ذكر ليبنتز تضميناً فينقد غفل من التوقيع لكتاب نيوتن " البصريات " أن فروق نيوتن تحوير لحساب التفاضلاللبنتزي. وفي 1712 عينت الجمعية الملكية لجنة فحص الوثائق المتصلة بالموضوع. وقبلأن ينصرم العام نشرت الجمعية تقريراً أكد أسبقية نيوتن دون أن تخوض في موضع أصالةلبنتز.
وفي رسالة كتبها لبنتز بتاريخ 9 أبريل 1716 إلى قسيس إيطالي بلندن اعترضبقوله أن تعليق نيوتن قد حسم الأمر. ومات لبنتز في 14 نوفمبر 1716. وبعد موته بقليلنفى نيوتن أن التعليق " أقر له - أي للبنتز باختراع حساب التفاضل مستقلاً عناختراعي " وفي الطبعة الثالثة من " المبادئ " (1726) حذف التعليق. ولم يكن النزاعمما يليق بالفلاسفة لأن كلا المدعيين كان يصح أن ينحني احتراماً لفيرما لأنه كانرائداً لهما في هذا المضمار.
- الفيزيائي على أن الرياضة على ما فيها منعجب لم تكن سوى أداة لحساب الكميات فهي لم تزعم أنها تفقه الحقيقة أو تصفها. فلماتحول نيوتن من الأداة إلى البحث الجوهري عكف أولاً على استكناه سر الضوء. وتناولتمحاضراته الأولى في كمبردج الضوء واللون والرؤية وعلى عاداته لم ينشر كتابه" البصريات " إلا بعد خمس وثلاثين سنة في 1704 فقد كان بريئاً من شهوة النشر.
وفيعام 1666 اشترى منشوراً من سوق ستوربردج وبدأ التجارب وبدأ التجارب في البصريات. وفي عام 1668 فصاعداً صنع سلسلة من التلسكوبات. فصنع بيديه على أساس النظريات التيشرحها مرسين (1639) وجيمس جريجوري (1662) تلسكوباً عاكساً ليتفادى بعض العيوبالملازمة للتلسكوب الكاسر وقدمه للجمعية الملكية بناء على طلبها عام 1671.
وفي 11 يناير 1672 انتخب لعضوية الجمعية.
وكان قد توصل (1666) إلى أحدكشوفه الأساسية حتى قبل أن يصنع التلسكوبات - وهو أن الضوء الأبيض أو ضوء الشمس ليسبسيطاً أو متجانساً بل هو مركب من الأحمر والبرتقالي والأصفر والأخضر والأزرقوالنيلي والبنفسجي. فلما مرر شعاعاً صغيراً من ضوء الشمس خلال منشور شفاف وجد أنالضوءالذي يبدو أحادي اللون انقسم إلى كل ألوان الطيف هذه وأن كل لون مكون خرج منالمنشور عند زاويته أو درجته أو انكساره الخاص وأن الألوان نظمت نفسها في صف الحزممؤلفه طيفاً مستمراً في أحد طرفيه اللون الأحمر وفي الآخر البنفسجي. وقد أثبتالباحثون اللاحقون أن المواد المختلفة إذا جعلت مضيئة بحرقها تعطي أطيافاً مختلفة.
وبمقارنة هذه الأطياف بالطيف الذي يحدثه نجم معين أصبح في الإمكان تحليلمكونات النجم الكيميائية إلى حد ما. ثم دلت الملاحظات الأدق لطيف النجم على السرعةالتقريبية لتحركه نحو الأرض أو بعيداً عنها ومن هذه الحسابات استنبط نظرياً بعدالنجم. وهكذا تمخض كشف نيوتن لتكوين الضوء وانكساره في الطيف عن نتائج كونيةتقريباً في ميدان الفلك.
ولم تتكشف هذه النتائج لنيوتن في ذلك الحين ولكنهأحس (كما كتب لأولدنبرج) أنه توصل " إلى أغرب كشف إلى الآن أن لم يكن أهم كشف فيعمليات الطبيعة " فأرسل إلى الجمعية الملكية في بواكير عام 1672 بحثاً عنوانه" نظرية جديدة في الضوء واللون ". وقرئ البحث على الأعضاء في 8 فبراير فأثار جدلاًعبر المانش إلى القارة. وكان هوك قد وصف في كتابه " ميكروجرافيا " (1664) تجربةشبيهة بتجربة نيوتن بالمنشور ولم يكن قد استنتج منها نظرية ناجحة في اللون ولكنهأحس بأن في أفعال نيوتن لفضله السابق غضاً من قدره فانضم غلى بعض أعضاء الجمعية فينقد النتائج التي خلص إليها نيوتن واستمر النزاع ثلاثة أعوام. كتب نيوتن المرهفالحس يقول " إنني مضطهد بالجدل الذي أثارته نظريتي في الضوء اضطهاداً جعلني ألومحماقتي لأنني ضحيت بنعمة عظمي نعمة هدوء البال جرياً وراء سراب " وحدثته نفسه حيناًبأن " أطلق الفلسفة طلاقاً بائناً لا رجعة فيه إلا ما أفعله إرضاء لذاتي".
وثارت نقطة أخرى من نقط الجدل مع هوك حول ناقل الضوء.
وكان هوك قداعتنق نظرية هويجنز التي زعم فيها أن الضوء ينتقل على موجات " أثير ". ورد نيوتنبأن هذه النظرية لا تفر مسار الضوء في خطوط مستقيمة. واقترح بدلاً منها " نظريةالجسيمات أو الدقائق فالضوء سببه إطلاق الجسم المضيء جزيئات دقيقة لا حصر لا تسيرفي خطوط مستقيمة خلال الفضاء بسرعة 190.000 ميل في الثانية. ورفض نظرية الأثيرناقلاً للضوء ولكنه قبله بعد ذلك وسيطاً لقوة الجاذبية.
وجمع نيوتنمناقشاته حول الضوء في كتابه (البصريات في 1704. ووما له دلالة أنه كتبهبالإنجليزية (في حين كان كتاب المبادئ باللاتينية) ووجهه " إلى القراء الحاضريالذكاء والفهم الذين لم يتضلعوا بعد في البصريات ". وفي نهاية الكتاب وضع قائمةلواحد وثلاثين سؤالاً تتطلب مزيداً من البحث. وكان السؤال الأول إرهاصاً بهذهالنبوءة " ألا تؤثر الأجسام في الضوء عن بعد فتنحني أشعته بهذا التأثير وألا يكونهذا التأثير على أشده في أدنى الأبعاد " والسؤال الثلاثون " لم لا تغير الطبيعةالأجسام إلى ضوء والضوء إلى أجسام".
- أصل نظرية الجاذبية كانت سنة 1666 سنةجنينية لنيوتن. شهدت بداية جهوده في البصريات ولكنه كذلك يقول عن ذكرياته أن شهرمايو " كان مدخلي إلى الطريقة العكسية للفروق المستمرة وفي نفس السنة بدأت أفكر فيامتداد الجاذبية إلى مدار القمر.... بعد أن قارنت بين القوة اللازمة لحفظ القمر فيمداره وقوة الجاذبية على سطح الأرض ووجدتهما متفقتين تماماً تقريباً... في تلكالسنين كانت في ربيع عمري".
وفي عام 1666 وصل الطاعون إلى كمبردج فعادنيوتن إلى موطنه وولزثورب طلباً للسلامة.
وهنا نلتقي بقصة لطيفة. كتب فولتير فيكتابه " فلسفة نيوتن " (1738): " ذات يوم من أيام 1666 حين كان نيوتن معتكفاً فيالريف رأى ثمرة تسقط من شجرة كما أخبرتني بنت أخته السيدة كوندويت فاستغرق في تفكيرعميق في السبب الذي يجذب جميع الأجسام في خط إذا مد مر قريباً جداً من مركز الأرض".
وهذا أقدم ما نعرفه من ذكر لقصة التفاحة. وهي لا ترد في كتب مترجمي نيوتنالقدامى ولا في روايته لكيفية اهتدائه لفكرة الجاذبية الكونية والفكرة السائدةاليوم عن القصة أنها أسطورة.
وأرجح منها قصة أخرى رواها فولتير وهي أنغريباً سأل نيوتن كيف اكتشف قوانين الجاذبية فأجاب " بإدمان التفكير فيها " ومما لاريب فيه أنه بحلول عام 1666 كان نيوتن قد حسب قوة الجذب التي تحفظ الكواكب فيأفلاكها وانتهى إلى أنها تتناسب تناسباً عكسياً مع مربع بعدها عن الشمس. ولكنه لميستطع إلى ذلك الوقت التوفيق بين النظرية وحساباته الرياضية فنحاها
جانباًولم ينشر عنها شيئاً طوال الأعوام الثمانية عشر التالية.
ولم تكن فكرة الجاذبيةبين النجوم جديدة قط على نيوتن. فقد ذهب بعض فلكيي القرن الخامس عشر إلى أنالسماوات تؤثر في الأرض بقوة تشبه قوة تأثير المغنطيس في الحديد وما دامت الأرضتنجذب بالتساوي من جميع الاتجاهات فإنها تبقى معلقة في مجموع هذه القوة.
وقد نبه كتاب جلبرت " المغنطيس " (1600) أذهاناً كثيرة إلى التفكير فيالتأثيرات المغنطيسية المحيطة بكل إنسان وقد كتب هو نفسه في كتاب لم ينشر إلا بعدموته بثمانية وأربعين عاماً (1651) يقول: " إن القوة المنبعثة من القمر تصل إلىالأرض وبالمثل فإن القوة المغنطيسية للأرض تعم منطقة القمر وكلتاهما تتجاوب وتتآلفبتأثيرهما المشترك حسب تناسب الحركات وتطابقها ولكن وكان اسماعيلس بوريار قد قر فيكتابه (1645) أن جذب الكواكب بعضها لبعض يتناسب تناسباً عكسياً مع مربع المسافةبينهما وذهب ألفونسو بوريللي في كتابه " نظريات الكواكب المديشية " (1666) إلى أن" كل كوكب وتابع يدور حول كرة كبرى في الكون بوصفها مصدراً للقوة تجذب الكوكب وتابعهوتمسكهما بحيث لا يمكن إطلاقاً أن ينفصلا عنها بل يضطران لإتباعهما أينما ذهبت فيدورات ثابتة مستمرة " وقد فسر مدارات هذه الكواكب والتوابع بأنها نتيجة القوةالمركزية الطاردة لدورانها (" كما نجد في العجلة أو الحجر يدوم في مقلاع ") تقابلهاقوة شمسها الجاذبة. وذهب كبلر إلى أن الجاذبية ملازمة لجميع الأجرام السماوية وقدرفي فترة من حياته أن قوتها تتناسب عكسياً مع مربع المسافة بينها وكان هذا خليقاًبأن يكون سبقاً واضحاً لنيوتن ولكنه عاد فرفض هذه الصيغة وافترض أن الجذب يتناقصتناقصاً طردياً مع زيادة المسافة. على أن هذه المداخل إلى نظرية في الجاذبية حرفتهاعن طريقها نظرية ديكارت في الدوامات التي تكونت في كتلة بدائية ثم عينت عمل كل جزءومداره.
وقد فكر كثير من المستفسرين اليقظين في الجمعية الملكية تفكيراً عميقاًفي رياضيات الجاذبية.
وفي 1674 سبق هوك بكتابه " محاولة لإثبات حركة الأرضالسنوية " " إعلان " نيوتن لنظرية الجاذبية بأحد عشر عاماً. قال هوك: " سأشرحنظاماً للكون مختلفاً في تفاصيل كثيرة عن أي نظام عرف إلى الآن متفقاً في جميعالأشياء مع القواعد الشائعة للحركات الميكانيكية. وهو يعتمد على فروض ثلاثة: (أولها) أن كل الأجرام السماوية أياً كانت ذوات قوة جاذبة إلى مراكزها لا تجذب بهاأجزاءها فحسب وتحفظها من أن تتطاير منها... بل تجذب كذلك سائر الأجرام السماويةالواقعة في مجال نشاطها... (وثانيها) أن جميع الأجسام أياً كانت التي تحرك حركةطردية وبسيطة تستمر في الحركة قدماً في خط مستقيم إلى أن تحرفها عن طريقها قوةفعالة أخرى... (وثالثها) أن قوى الجذب هذه يشتد فعلها بقدر قرب الجسم الواقع تحتجاذبيتها من مراكزها".
ولم يحسب هوك في بحثه هذا أن الجذب يتناسب تناسباًعكسياً مع مربع المسافة ولكنه أنهى هذا المبدأ إلى نيوتن - إذا صدقنا رواية أوبري- بعد أن توصل إليه مستقلاً. وفي يناير 1684 شرح هوك صيغة المربعات العكسية لرن وهالياللذين كانا قبلاها من قبل. فذكر لهوك أن الحاجة ليست إلى مجرد فرض بل إلى إيضاحرياضي يثبت أن مبدأ الجاذبية يفسر مسارات الكواكب. وعرض رن على هوك وهالي جائزةقدرها أربعون شلناً (100 دولار) أن أتاه أحدهما ببرهان رياضي على الجاذبية. ولميأته البرهان على قدر علمنا.
وفي أحد أيام أغسطس 1684 ذهب هالي إلى كمبردجوسأل نيوتن ماذا يكون مدار كوكب ما إذا تناسب جذب الشمس له تناسباً عكسياً مع مربعالمسافة بينهما. وأجاب نيوتن أنه يكون قطعاً ناقصاً (اهليلجاً) ز ولما كان كبلر قداستخلص من دراسته الرياضية لمشاهدات تيكو براهي أن مدارات الكوكب اهليلجية فقد بداأن الفلك الآن تأيد بالرياضة والعكس بالعكس. وأضاف نيوتن أنه أجرى الحسابات تفصيلاًفي 1679 ولكنه نحاها جانباً من جهة لأنها لم تتفق تماماً مع التقديرات السائدةيومها لقطر الأرض والبعد بين الأرض والقمر وأرجح من هذا السبب أنه لم يكن واثقاً منأنه يستطيع تناول الشمس والكواكب والقمر على أنها نقط مفردة في قياس قوتها الجاذبة. ولكن في عام 1671 أذاع بيكار قياسه الجديد لنصف قطر الأرض ولدرجة من درجات خطوطالطول التي حسب أخيراً أنها تبلغ 69.1 ميلاً قانونياً إنجليزياً وفي عام 1672 تمكنبيكار بفضل بعثته إلى سايين من حساب بعد الشمس عن الأرض فقرر أنه 87.000.000 ميل(والرقم الحالي 92.000.000) واتفقت هذه التقديرات الجديدة اتفاقاً طيباً مع رياضةنيوتن في الجاذبية وأقنعه المزيد من الحسابات في 1685 بأن الكرة تجذب الأجسام وكأنكتلة هذه الكرة كلها تجمعت في مركزها. وشعر الآن بمزيد من الثقة في فرضه.
ثم قارن سرعة حجر على الأرض بسرعة سقوط القمر على الأرض إذا نقصت قوة جذبالأرض له بمربع المسافة بينهما. فوجد أن نتائجه تتفق وآخر البيانات الفلكية. فخلصمن هذا إلى أن القوة التي تسقط الحجر والقوة الجاذبة للقمر نحو الأرض رغم قوة طردالقمر المركزية هما قوة واحدة. وسر الإنجاز الذي حققه هنا كامن في تطبيقه هذهالنتيجة التي انتهى إليها على جميع الأجسام التي في الفضاء وفي تصوره أن جميعالأجرام السماوية مترابطة في شبكة من التأثيرات الجذبية وفي بيانه كيف أن حساباتهالرياضية والميكانيكية تتفق وملاحظات الفلكيين لا سيما قوانين كبلر الكوكبية.
وبدأ نيوتن إجراء حساباته من جديد وأنهاها إلى هالي في نوفمبر 1684. وأدركهالي أهميتها فحثه على تقديمها للجمعية الملكية فوافق وأرسل إلى الجمعية رسالة في" قضايا الحركة " (فبراير 685) لخص فيها آراء في الحركة والجاذبية. وفي مارس 1686 قدمللجمعية مخطوط الكتاب الأول من كتب الحركة عن المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية. وللتو لفت هوك النظر إلى أنه سبق نيوتن في 1674. ورد نيوتن في رسالة إلى هالي أنهوك أخذ فكرة المربعات العكسية عن بوريللي وبويار. وتفاقم الخلاف حتى أصبح سخطاً منالطرفين وحاول هالي أن يصلح ذات البين وهدأ نيوتن ثائرة هوك بتضمين مخطوطته حاشيةتحت القضية الرابعة أقر فيها بفضل " أصدقائنا رن وهوك وهالي " في أنهم " استنتجوامن قبل " قانون المربعات العكسية. ولكنه ضاق بالنزاع أشد الضيق حتى أنه حين أعلنلهالي (20 يونيو 1678) أن الكتاب الثاني جاهز أضاف قائلاً " في نيتي الآن أن أوقفالكتاب الثالث. فالفلسفة أشبه بامرأة مشاكسة وقحة تزج بمن يتعامل معها في قضاياأمام المحاكم ". وأقنعه هالي بأن يواصل الكتاب. وفي سبتمبر 1687 نشر المؤلف كلهبرعاية الجمعية الملكية ورئيسها آنئذ صموئيل بيبيس. ولما كانت الجمعية في ضائقةمالية فقد أنفق هالي على النشر بأكمله من جيبه الخاص مع أنه لم يكن بالرجل الميسور.
وهكذا وبعد عشرين عاماً من الإعداد ظهر أهم كتاب في علم القرن السابععشر كتاب لا يضارعه في عظم تأثيره في ذهن أوربا المثقفة سوى كتاب كوبرنيق فيالدورات (1543) وكتاب دارون في أصل الأنواع (1859). هذه الكتب الثلاثة هي أهمالأحداث في تاريخ أوربا الحديثة.
- كتاب المبادئ " برنكيبا
" بما أنالقدماء (كما يخبرنا بابوس) علقوا أهمية عظمى على علم الميكانيكا في بحثهم فيالأشياء الطبيعية وبما أن المحدثين بعد أن نحو أشكال المادة (التي قال بهاالسكولاستيون) والصفات الغيبية حاولوا إخضاع الظواهر الطبيعية لقوانين الرياضة فقدطورت الرياضة في هذا البحث على قدر اتصالها بالفلسفة (الطبيعية)... وعليه فإنا نقدمهذا المؤلف على أنه المبادئ الرياضية للفلسفة ذلك لأن كل معضلة الفلسفة هي في بحثقوى الطبيعة من ظواهر الحركة ثم توضيح الظواهر الأخرى من هذه القوى".
أماوجهة نظر الكتاب فستكون ميكانيكية خالصة: " وددت لو استطعنا استخلاص باقي الظواهرالطبيعية بنفس نوع الاستدلال من الأسس الميكانيكية لأن مبررات كثيرة تحملني علىالظن بأنها ربما كانت كلها تتوقف على قوى معينة تدفع بواسطتها جزيئات الأجسامبأسباب مجهولة إلى الآن بعضها نحو البعض وتتماسك في أشكال منتظمة أو تصد وتتراجعبعضها عن البعض وإذ كانت هذه القوى مجهولة فقد حاول الفلاسفة إلى الآن البحث فيالطبيعة عبثاً ولكني أرجو أن تلقي المبادئ الموضوعية هنا بعض الضوء على تلك الطريقةأو على طريقة أصح من طرق الفلسفة".
وبعد أن وضع نيوتن بعض التعاريفوالبديهيات صاغ ثلاثة قوانين للحركة: - كل جسم يبقى على حالته من حيث السكون أوالحركة المنتظمة في خط مستقيم ما لم يضطر إلى تغيير تلك الحالة بقوى واقعة عليه.
- تغيير الحركة يتناسب مع القوة المحركة الواقعة ويتم في اتجاه الخط المستقيمالذي تقع فيه تلك القوة.
أما وقد تسلح نيوتن بهذه القوانين وبقانون التربيعالعكسي فقد تقدم إلى صياغة مبدأ الجاذبية.
وصورة المبدأ الحالية وهي أن كل جزيءمن المادة يجذب كل جزيء بقوة تتناسب تناسباً طردياً مع حاصل ضرب كتلتيهما وتناسباًعكسياً مع مربع البعد بينهما هذه الصورة لا نجدها بهذا النص في أي موضوع في كتابالمبادئ ولكن نيوتن أعرب عن الفكرة في التعقيب العام الذي ختم به الكتاب الثاني: " إن الجاذبية... تعمل... حسب كمية المادة الجامدة التي تحتويها (الشمس والكواكب) وتنتشر قوتها على جميع الجهات... متناقضة أبداً بما يتناسب مع المربع العكسيللمسافات".
وقد طبق هذا المبدأ وقوانينه في الحركة على مدارات الكواكبووجد أن تقديراته الحسابية تتفق والمدارات الاهليلجية التي استنتجتها كبلر. وزعم أنالكواكب تحول عن حركاتها المستقيمة وتحفظ في مداراتها بقوة تميل صوب الشمس وتتناسبتناسباً عكسياً مع مربع أبعادها عن مركز الشمس. وعنى أساس مبادئ مماثلة فسر جذبالمشتري لتوابعه والأرض للقمر. وبين أن نظرية ديكارت في الدوامات باعتبارها الشكلالأول للكون لا يمكن التوفيق بينها وبين قوانين كبلر. وحسب كتلة كل كوكب وقدر كثافةالأرض من خمسة إلى ستة أمثال كثافة الماء. (والرقم الحالي 5.5).
وعللرياضياً تفرطح الأرض عند القطبين وعزا إنبعاجها عند الاستواء إلى قوة الشمس الجاذبةووضع رياضيات المد والجزر باعتبارهما راجعين إلى جذب الشمس والقمر الموحد للبحارويمثل هذا الفعل القمري - الشمسي فسر مبادرة نقطتي الاعتدالين ورد مسارات المذنباتإلى مدارات منتظمة وبهذا أيد نبوءة هالي. وقد صور كوناً أعظم تعقيداً من الناحيةالميكانيكية مما ظن من قبل لأنه نسب لجميع الكواكب والنجوم صفة الجذب فأصبح الآن كلكوكب أو نجم بنظر إليه على أنه متأثر بكل كوكب أو نجم آخر. ولكن في هذا الحشدالمعقد من الأجرام السماوية وضع نيوتن قانوناً يحكمه: فأبعد النجوم يخضع لذاتالميكانيكا والرياضة اللتين يخضع لها أصغر الجزيئات على الأرض. إن رؤية الإنسانللقانون لم تغامر قط بالتحليق في الفضاء إلى مثل هذا البعد ولا بمثل هذه الجرأة.
ونفدت الطبعة الأولى من " المبادئ " سريعاً ولكن لم تظهر طبعة ثانيةإلا في 1713. وعزت نسخه حتى أن عالماً نسخ الكتاب كله بيده. واعترف القراء بأنه عملفكري من أرفع طراز ولكن بعض ملاحظات النقد كدرت صفو الثناء عليه. فرفضت فرنساالنظام النيوتني لتشبثها بدوامات ديكارت إلى أن عرضه فولتير في 1738 عرضاً ملؤهالإعجاب والتبجيل. واعترض كاسيني وفونتنيل بأن الجاذبية ليست سوى قوة أو صفة غيبيةتضاف إلى القوى الماضية وقالا أن نيوتن شرح بعض العلاقات بين الأجرام السماويةولكنه لم يكشف عن طبيعة الجاذبية التي ظلت سراً خفياً كسر الله. وقال ليبنتز بأنهما لم يستطع نيوتن بيان المكنية التي تستطيع الجاذبية أن تؤثر بها خلال فضاء يبدوفارغاً في أجسام تبعد عنها ملايين الأميال فإنه لا يمكن قبول الجاذبية على أنها شيءأكثر من مجرد كلمة.
ولم تحظ النظرية الجديدة بالقبول السريع حتى فيإنجلترا. وزعم فولتير أن المرء كان بالجهد يجد عشرين عالماً يرضون عنها بعد أن نشرتلأول مرة بأربعين عاماً. وبينما شكا النقاد في فرنسا من أن النظرية ليست ميكانيكيةبالقدر الكافي إذا قيست بدوامات ديكارت البدائية كانت الاعتراضات عليها في إنجلترةفي أغلبها دينية فأسف جورج باركلي في كتابه " مبادئ المعرفة الإنسانية " (1710) لأننيوتن يرى الفضاء والزمان والحركة مطلقة سرمدية فيما يبدو وموجودة مستقلة عنالمساندة الإلهية. فالميكانيكية تطغى على النظام النيوتوني طغياناً لا يترك فيهمكاناً لله.
فلما وافق نيوتن بعد ما عهد فيه من تسويفات على أن يعد طبعهثانية الكتاب حاول أن يهدئ من ثائرة نقاده. فأكد لليبنتز والفرنسيين أنه لا يفترضقوة تعمل عن بعد خلال الفضاء الفارغ وأنه يعتقد بوجود ناقل متخلل رغم أنه لن يحاولوصفه صم اعترف بصراحة أنه لا يفقه طبيعة الجاذبية. وبهذه المناسبة كتب في الطبعةالثانية كلماته التي كثيراً ما ياء فهمها وهي أنه " لا يضع فرضاً " وأضاف " يجب أنتتسبب الجاذبية من عامل يعمل بثبات وفق قوانين معينة ولكني أترك لقرائي النظر في هلهذا العامل مادي أو غير مادي".
ورغبة في المزيد من الرد على الاعتراضاتالدينية ألحق بالطبعة الثانية تعقيباً عاماً عن دور الله في نسقه.
فقصرتفسيراته الميكانيكية على العالم المادي ورأى حتى في ذلك العالم أدلة على وجود خطةإلهية فالآلة الكبرى تتطلب مصدراً أول لحركتها لا بد أن يكون هو الله ثم إن فيالنظام الشمسي شذوذات في المسلك يصححها تعالى دورياً كلما ظهرت. ولكي يفسح نيوتنمجالاً لهذه التدخلات الخارقة نزل عن مبدأ عدم فناء الطاقة. وافترض الآن أن آلةالعالم تفقد بعض طاقتها بمضي الوقت وستفقدها كلها إن لم يتدخل الله ليرد عليهاقوتها. واختتم بهذه العبارة " إن هذا النظام البديع نظام الشمس والكواكب والمذنباتلا يمكن أن ينبعث إلا من مشورة كائن ذكي قوي ومن رحابه".
وأخيراً تحرك صوبالفلسفة يمكن أن تفسر بمعنى حيوي أو تفسر بمعنى ميكانيكي قال: " وقد نضيف الآنشيئاً يتصل بروح غاية في الدقة روح تنتشر وتختفي في جميع الأجسام الكبيرة وبقوتهاوفعلها تتجاذب جزيئات الأجسام في المسافات القريبة وتتماسك إذا تجاوزت وتعملالأجسام الكهربية إلى أبعاد أعظم فتصد وتجذب الجزيئات المجاورة ويرسل الضوء ويعكسويكسر ويثني ويسخن الأجسام وكل إحساس يثار وتتحرك أعضاء الأجسام الحيوانية بأمرالإرادة أعني بتموجات هذه الروح مبثوثة بالتبادل على خيوط الأعصاب المتينة من أعصابالحس الخارجة إلى المخ ومن المخ إلى العضلات.
على أن هذه أشياء لا يمكنتفسيرها في بضع كلمات ثم أننا لم نزود بما يكفي من التجارب التي يتطلبها التقريروالإيضاح الدقيقان للقوانين التي تعمل وفقاً لها هذه الروح الكهربية المرنة".
ترى ماذا كان إيمانه الديني الحقيقي لقد تطلبت أستاذيته في كمبردج الولاءللكنيسة الرسمية وكان يختلف بانتظام إلى الخدمات الكنسية الأنجليكانية. أما صلواتهالخاصة فيقول فيها سكرتيره " لا أستطيع أن أقول عنها شيئاً وأميل إلى الاعتقاد بأندراساته المفرطة حرمته من النصيب الأفضل ". ومع ذلك فقد درس الكتاب المقدس بنفسالغيرة التي درس بها الكون.
وقد أثنى عليه رئيس أساقفة بقوله " إنك تعرف مناللاهوت أكثر مما نعرف كلنا مجتمعين " وقال لوك عن معرفته بالأسفار المقدسة " لستأعرف من أمثاله إلا القليلين " وقد خلف كتابات لاهوتية يفوق حجمها كل مؤلفاتهالعلمية.
وقادته دراساته إلى نتائج أشبه بالأريوسية وهي قريبة الشبه بنتائجملتن ومجملها أن المسيح وإن كان ابن الله إلا أنه ليس مساوياً لله الآب في الزمن أوالقوة. وفيما عدا ذلك كان نيوتن أو أصبح مستقيم العقيدة تماماً. ويبدو أنه آمن بكلكلمة من كلمات الكتاب المقدس على أنها كلمة الله وأنه قبل سفري دانيال ورؤيا يوحناعلى أنهما الحقيقة بحذافيرها. لقد كان أعظم علماء عصره صوفيا نسخ في شغف فقراتطويلة من يعقوب بومي وطلب إلى لوك أن يناقش معه معنى " الحصان الأبيض " الوارد فيسفر الرؤيا. وقد شجع صديقه جون كريج على كتابه " الأسس الرياضية للاهوت المسيحي" (1699) الذي حاول أن يثبت بالرياضة تاريخ مجيء المسيح الثاني والنسبة بين أقصى مايمكن بلوغه من السعادة الأرضية وسعادة المؤمن التي يجزي بها في الفردوس. وقد كتبتعليقاً على سفر الرؤيا وزعم أن المسيح الكاذب المتنبأ به في السفر هو بابا روما. لقد كان ذهن نيوتن مزيجاً جمع بين ميكانيكا جاليليو وقوانين كبلر وبين لاهوت بومي. ولن يطالعنا الزمان بمثله عن قريب.
- الأصيل لقد كان بمعنى آخر مزيجاًشاذاً رجلاً مستغرقاً بشكل واضح في النظرية الرياضية والصوفية وهو مع ذلك ذو مقدرةعملية وفطرة سليمة اختارته جامعة كمبردج عام 1687 ليذهب مع
آخرين للاحتجاجلدى جيمس الثاني على محاولة هذا الملك أن يفرض على الجامعة أن تمنح راهباً بندكتياًدرجة جامعية دون أن يحلف الإيمان العادية التي يستحيل على الكاثوليكية أن يقبلها. وفشلت البعثة في ثني الملك عن قراره ولكن لا بد أن الجامعة رضيت عن رئاسة نيوتن لهالأنه اختير عضواً ممثلاً لكمبردج في برلمان 1689. وظل عضواً حتى حل البرلمان عام690 ثم أعيد انتخابه عام 1701 ولكنه لم يشارك في السياسة بدور مذكور.
وتخللت حياته العملية عام 1692 سنتان من المرض الجسمي والعقلي. فقد كتب إلىبيبيس ولوك رسائل يشكو فيها من الأرق والسوداء ويعرب على مخاوف الاضطهاد ويتحسر علىفقده " تماسك ذهنه القديم ". وفي 16 سبتمبر 1693 كتب إلى لوك يقول: سيدي: إن ظنيأنك حاولت توريطي في علاقات نسائية وبطرق أخرى أثر في نفسي تأثيراً شديداً حتى أننيأجبت حين أخبرني أحدهم بأنك مريض ولن تعيش بأن من الخير أن تموت.
وأود أنتغتفر لي هذه القسوة لأنني الآن مقتنع بأن ما فعلته صواب وأسألك الصفح عن إساءتيالظن بك في هذا الأمر وعن قولي أنك أصبت الفضيلة في الصميم بمبدأ وضعته في كتاب" الأفكار " الذي ألفته ونويت أن تواصله في كتابه آخر وعن أنني حسبتك خطأ من أنصارهوبز. كذلك أسألك الصفح عن قولي أو ظني بأن هناك خطة لبيعي منصباً أو لتوريطي...
وأني خادمك الخاضع المنكود الحظ إسحاق نيوتن وذكر بيبيس في خطاب تاريخه 26سبتمبر 1693 " اضطراباً في... الرأس أو العقل " تدل عليه رسالة تلقاها من نيوتن. وقد خلف هويجنز عند وفاته (1695) مخطوطة فيها دون فيها تحت يوم 29 مايو 1694 أن" مستر كولين وهو رجل اسكتلندي أنبأني أن عالم الهندسة الشهير إسحاق نيوتن أصابه لوثةقبل ثمانية عشر شهراً " ولكنه استعاد صحته فبدأ يفهم كتابه " المبادئ ". وأرسلهويجنز التقرير إلى ليبنتز في رسالة مؤرخة 8 يونيو 1694 قال فيها: " إن الرجل الطيبالمستر نيوتن أصيب بنوبة من الخبل لازمته ثمانية عشر شهراً وقيل أن أصحابه شفوهمنها بالعقاقير وإبقائه محبوساً " وظن البعض أن هذا الانهيار العصبي صرف نيوتن عنالعلم إلى سفر الرؤيا ولكنا لا نستطيع الجزم بهذا. وقيل " أنه لم يركز قط كما ألفأن يركز ولم يقم بأي جهد جديد " ومع ذلك ففي 1696 حل على الفور تقريباً مسألةحسابية اقترحها يوهان برنوللي " على أذكى الرياضيين في العالم " وكذلك فعل بمسألةوضعها ليبنتز عام 1716.
وقد أرسل رده على برنوللي غفلاً من الاسم بطريقالجمعية الملكية ولكن برنوللي حزر على الفور أن صاحبه نيوتن إذ تبين " الأسد منمخلبه " على حد قوله. وفي عام 1700 اكتشف نظرية آلة السدس ولم يكتشف النقاب عنهاإلا بخطاب لهالي ووجب أن يعاد اختراعها عام 730. ويبدو أنه شرف المناصب العسيرةالتي بادرت الدولة بتعيينه فيها.
وكان لوك وبيبيس وغيرهما من أصدقاء نيوتنقد فاوضوا حيناً للحصول له على منصب حكومي يخرجه من سجن حجرته ومختبره في كمبردج. وفي عام 1695 أقنعوا اللورد هاليفاكس بأن يعرض عليه وظيفة أمين دار سك النقود. ولمتكن الوظيفة شرفية ولا صدقة إذ أرادت الحكومة أن تفيد من علم نيوتن بالكيمياءوالمعادن في ضرب عملة جديدة. ففي 1695 انتقل إلى لندن حيث عاش مع ابنة أخته كاترينبارتون خليلة هاليفاكس. وقد خيل إلى فولتير أن افتتان هاليفاكس ببنت الأخت هذه حملهاليفاكس وهو وزير للخزانة على أن يعين نيوتن مديراً لدار سك النقود في 1699 ولكنهذه الشائعة لا تكاد تفسر استمرار نيوتن في شغل ذلك المنصب طوال الثمانية والعشرينعاماً الباقية له في أجله وشغله على نحو حاز الرضاء العام.
وكان خليقاًبشيخوخته أن تكون سعيدة. فقد كرمته الدولة بوصفه أعظم العلماء الأحياء ولم يحظ رجلمن رجال العلم حتى وقتنا هذا بمثل ما حظي به من ثناء عريض. وقد انتخب رئيساًللجمعية الملكية عام 1703 وظل ينتخب سنوياً بعد ذلك حتى وفاته. وفي عام 1705 خلعتعليه الملكة آن لقب الفروسية. وحين ركب عربته مخترقاً شوارع لندن تفرس الناس برهبةفي وجهه الوردي وقد فاض جلالاً وطيبة تحت لمة من الشعر الأبيض. ولم يستطيعوا طوالالوقت أن يلحظوا أنه قد عرض بأكثر مما يتناسب مع طوله المتواضع. وكان يستمتع براتيطيب بلغ 1.200 جنيه في العام وقد استثمر مدخراته بحكمة حتى أنه خلف عند وفاته 2.000جنيه رغم سخائه في الهدايا والصدقات. وقد أفاق من خسارته في انهيار شركة " ساوث سي".
على أنه كان منقلب المزاج وأحياناً سريع الغضب سيئ الظن كتوماً ودائماًشديد التهيب رغم كبريائه. كان يجب اعتزال الناس ولا يصنع الأدقاء بسهولة. وفي عام1700 عرض الزواج على أرملة غنية ولكن العرض لم يسفر عن نتيجة ولم يتزوج قط. وإذ كانعصبي المزاج. حساساً بشكل مرضي فقد كان لا يطيق النقد إلا متألماً ويغتاظ منه غيظاًشديداً ويرد الصاع صاعين في الجدل. وكان يعرف قدر عمله وكفايته ولكنه عاش عيشاًمتواضعاً إلى أن أتاح له راتبه